فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (46):

{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)}
ويريد الحق سبحانه هنا أن يلفتَ نبيَّه نوحاً إلى أن أهليَّة الأنبياء ليست أهلية الدم واللحم، ولكنها أهلية المنهج والاتِّباع، وإذا قاس نوح عليه السلام ابنه على هذا القانون، فلن يجده ابناً له.
ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم عن سلمان الفارسي: (سلمان منَّا آل البيت).
إذن: فالبنوة بالنسبة للأنبياء هي بنوة اتِّباع، لا بنوة نَسَب.
وانظر إلى دقة الأداء في قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46].
ثم يأتي سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46].
فكأن البنوة هنا عمل، وليست ذاتاً، فالذات منكورة هنا، والمذكور هو العمل، فعمل ابن نوح جعله غير صالح أن يكون ابناً لنوح.
وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للأنبياء ليس الدم، وليس الشحم، وليس اللحم، إنما هو الاتِّباع بدليل أن الحق سبحانه وصف ابن نوح بقوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ولو كان عملاً صالحاً لكان ابنه.
ويقول الحق سبحانه: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46].
والحق سبحانه يطلب من نوح هنا أن يفكِّر جيِّداً قبل أن يسأل، فلا غبار على الأنبياء حين يربيِّهم ربُّهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ}

.تفسير الآية رقم (47):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)}
وهنا يدعو نوح عليه السلام ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ما قاله، وهو هنا يقرُّ بأنه لما أحبَّ أن يسأل نجاة ابنه لم يستطع أن يكتم سؤاله، ولكن الحق سبحانه وتعالى وحده هو القادر على أن يمنع من قبله مثل هذا السؤال، وهذه قمة التسليم لله تعالى.
وقول نوح عليه السلام: {إني أَعُوذُ بِكَ} [هود: 47].
يوضِّح لنا أن الإنسان لا يعوذ من شيء بشيء إلا إن كانت قوته لا تقدر على أن تمتنع عنه.
ولذلك يستعيذ نوح عليه السلام من أن يسأل ما ليس له به علم، ويرجو مغفرة الله سبحانه وتعالى ورحمته حتى لا يكون من الخاسرين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ}

.تفسير الآية رقم (48):

{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)}
وقوله الحق سبحانه: {اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} [يونس: 48].
يدل على أن نوحاً عليه السلام قد تلقَّى الأمر بالنزول من السفينة ليباشر مهمته الإيمانية في أرض فيها مقومات الحياة، مما حمل في تلك السفينة من كلٍّ زوجين اثنين، ومن معه من المؤمنين الذين أنجاهم الله تعالى، وأغرق مَنْ قالوا عليهم إنهم أراذل.
وقول الحق سبحانه: {أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48].
تضمَّن أهل نوح عليه السلام ومَنْ آمن به، وكذلك أمم الوحوش والطيور والحيوانات والدواب.
أي: أنها إشارة إلى الأمة الأساسية، وهي أمة الإنسان وإلى الأمم الخادمة للإنسان، وهكذا توفرت مقومات الحياة للمؤمنين، ويتفرَّغ نوح وقومه إلى المهمة الإيمانية في الأرض.
وقول الحق سبحانه: {اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} [هود: 48].
والمقصود بالسلام هو الأمن والاطمئنان، فلم يَعُدْ هناك من الكافرين ما ينغِّص على نوح عليه السلام أمره، ولن يجد من يكدِّر عليه بالقول: {جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32].
ولن يجد مَنْ يتهمه بالافتراء.
ومَنْ بقي مع نوح هم كلهم من المؤمنين، وهم قد شهدوا أن نجاتهم من الغرق قد تمت بفضل المنهج الذي بلَّغهم به نوح عن الله تعالى.
وقول الحق سبحانه: {وَبَركَاتٍ} [هود: 48].
يعني أن الحق سبحانه يبارك في القليل ليجعله كثيراً.
ويقال: (إن هذا الشيء مبارك) كالطعام الذي يأتي به الإنسان ليكفي اثنين، ولكنه فوجئ بخمسة من الضيوف، فيكفي هذا الجميع.
إذن: فالشيء المبارك هو القليل الذي يؤدِّي ما يؤدِّيه الكثير، مع مظنَّة أنه لا يفي.
وكان يجب أن تأتي هنا كلمة {وَبَركَاتٍ} لأن ما يحمله نوح عليه السلام من كلٍّ زوجين اثنين إنما يحتاج إلى بركات الحق سبحانه وتعالى ليتكاثر ويكفي.
وقول الحق سبحانه: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48].
هذا القول يناسب الطبيعة الإنسانية، فقد كان المؤمنون مع نوح عليه السلام هم الصفوة، وبمضيِّ الزمن طرأت الغفلة على بعضٍ منهم، ويأتي جيل من بعدهم فلا يجد الأسوة أو القدوة، ثم تحيط بالأجيال التالية مؤثرات تفصلهم تماماً عن المنهج.
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ينام الرجل النومة فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتُقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المَجْل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه مُنتبراً، وليس فيه شيء، ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدِّي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خَرْدلٍ من إيمان».
وهكذا تطرأ الغفلة على أصحاب المنهج، ويقول صلى الله عليه وسلم: «تُعرض الفِتَن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّما قلب أشْرِبَها نُكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا لا تضرُّه فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْباداً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشْرِبَ مِنْ هَواه».
وأعوذ بالله تعالى من طروء فتنة الغفلة على القلوب.
والحق سبحانه يتحدث في هذه الآية عن الذين بقوا مع نوح عليه السلام وهم صفوة من المؤمنين، لكن منهم من ستطرأ عليه الغفلة، وسيمتِّعهم الله سبحانه وتعالى أيضاً بمتاع الدنيا، ولن يضنَّ عليهم، ولكن سَيَلحقُهم العذاب.
فإذا ما جاء جيل على الغافلين فهو يخضع لمؤثِّرين اثنين:
المؤثر الأول: غفلته هو.
المؤثر الثاني: أسوة الغافلين من السابقين عليه.
ونحن نعلم أن مِنْ ذرية نوح عليه السلام (قوم عادٍ) الذين أرسل الحق سبحانه إليهم هوداً عليه السلام، وكذلك (قوم ثمود) الذين أرسل إليهم أخاهم صالحاً عليه السلام، وقوم لوطٍ، وهؤلاء جميعاً رَانَتِ الغفلة على قلوبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ}

.تفسير الآية رقم (49):

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}
وكلمة (تلك) إشارة وخطاب، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، و(التاء) إشارة إلى السفينة وما تبعها من أنباء الغيب، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم معاصراً لها ولا يعلمها هو، ولا يعلمها أحد من قومه.
وأنت يا رسول الله لم يُعلَم عنك إنك جلستَ إلى معلِّم، ولم يذكر عنك أنك قرأت في كتاب؛ ولذلك يأتي في القرآن: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44].
وجاء: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].
إذن: فما دمتَ يا محمد لم تقرأ ولم تتعلَّم عن معلِّم فمَن علَّمك؟
إنما عَلَّمك الله سبحانه.
وكأن الله سبحانه وتعالى علَّم رسوله صلى الله عليه وسلم قصة نوح عليه السلام وأراد بها إلقاء الأسوة وإلقاء العبرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثق بأن كل رسول إنما يصنع حركته الإيمانية المنهجية بعين من الله، وأنه سبحانه لن يسلِّمه إلى خصومة ولا أعدائه.

ولذلك يأتي القول الكريم: {فاصبر}؛ لأنك قد عرفت الآن نتيجة صبر نوح عليه السلام الذي استمر ألف سنة إلا خمسين، ويأتي بعدها قوله سبحانه: {إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
تأتي بعد ذلك قصة قوم عاد بعد قصة نوح، ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يُرسل رسولاً إلا إذا عَمَّ الفساد.
إذن: فقد حصلت الغفلة من بعد نوح، وانضمَّت لها أسوة الأبناء بالآباء فانطمس المنهج، وعزَّ على الموجودين أن يقيموه.
والله سبحانه وتعالى لا يبعث برسلٍ جُددٍ إلا إذا لم يوجد في الأمة من يرفع كلمة الله؛ لأننا نعلم أن المناعة الإيمانية في النفس الإنسانية قد تكون مناعة ذاتية، بمعنى أن الإنسان قد تُحدِّثه نفسه بالانحراف عن منهج الله، لكن النفس اللوَّامة تردعه وتردُّه إلى الإيمان.
أما إذا تصلَّبتْ ذاتُه، ولم توجد لديه نفس لوَّامة، فالمناعة الذاتية تختفي، ولكن قد يقوم المجتمع المحيط بِلَوْمِهِ.
ولكن إذا اختفت المناعة الذاتية، والمناعة من المجتمع فلابد أن يبعث ربُّ العزة سبحانه برسولٍ جديدٍ، وبيِّنة جديدة، وبرهان جديد.
هكذا حدث من بعد نوح عليه السلام.
ولذلك يأتي قول الحق سبحانه: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}

.تفسير الآية رقم (50):

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)}
يفتتح الحق سبحانه الآية بتحنينهم ومؤانستهم بالمرسَل إليهم، فيُخبرهم أنه أخوهم، ولا يمكن للأخ أن يريد لهم العَنَتَ، بل هو ناصح، مأمون عليهم، وعلى ما يبلغهم به.
وحين يقول لهم: {ياقوم} [هود: 50].
فهذا للإيناس أيضاً.
ثم يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده؛ لأنهم اتخذوا غير الله إلهاً، وهذا قمة الافتراء.
والله سبحانه لم يقل: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود: 50].
إلا لأن الفساد قد طَمَّ.
ويقول سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان هود: {ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}

.تفسير الآية رقم (51):

{يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)}
وكأن هوداً عليه السلام يقول لهم: ما الذي يشقُّ عليكم فيما آمركم به وأدعوكم إليه، إنني أقدِّم لكم هذا البلاغ من الله تعالى، ولا أسألكم عليه أجراً، فليس من المعقول أن أنقلكم مما ألفتم، ثم آخذ منكم مالاً مقابل ذلك، ولا يمكن أن أجمع عليكم مشقة تَرْك ما تَعوَّدْتُم عليه وكذلك أجر تلك الدعوة.
وما دُمْتُ لن آخذ منكم أجراً، إذن: فلا مشقة أكلِّفكم بها، كما أنني في غِنًى عن ذلك الأجر؛ لأن أجري على من أرسلني.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [هود: 51].
أي: أنَّ أجري على مَنْ خَلَقني مُعَدّا لهذه الرسالة؛ لأن الفطرة تعني التكوين الأساسي للإنسان.
والحق سبحانه قد أعدَّ هوداً عليه السلام ليكون رسولاً، ونحن نعلم أيضاً أن الأجر يكون عادة مقابلاً للمنفعة.
وسبق أن ضربنا المثل بمن يشتري بيتاً، فهو يدفع ثمن البيت لصاحبه، وتُسمَّى هذه العملية بيعاً وشراءً.
أما إذا استأجر الإنسان بيتاً فهو يدفع إيجاراً مقابل انتفاعه بالسكن فيه.
وقول هود عليه السلام: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [هود: 51].
يفيد أنه كان من الواجب أن يدفعوا أجراً كبيراً مقابل منفعتهم بما يدعوهم إليه؛ لأن الأجر الذي تدفعونه في المستأجرات العامة لكم إنما يكون مقابلاً لمنافع موقوتة، لكن ما يقدمه لهم هود عليه السلام هو منفعة غير موقوتة!
ولذلك ترك هود عليه السلام الأجر لمن يقدر عليه، وهو الله سبحانه وتعالى. فهو القادر على كل شيء.
وقد أوضحنا من قبل أن كل مواكب الرسل جاءت بهذه العبارة: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [هود: 51].
إلا إبراهيم وموسى عليهما السلام؛ فسيدنا إبراهيم لم يَقُلْها بسبب أبيه، وسيدنا موسى لم يقلها؛ لأن فرعون قال له: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18].
إذن: كان يجب على قوم هود أن يعقلوا الفائدة الجَمَّة، وهي المنهج الرِّسالي الذي جاء به هود عليه السلام.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام مخاطباً قومه: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ}